إغلاق الجزيرة في رام الله- تساؤلات حول توقيته ومبرراته وتأثيره.

أين يكمن التقصير المحتمل لقناة الجزيرة؟ أليس من الأجدر بنا أن نتفحص بعمق هذا السؤال، تحديدًا إذا كنا نرغب في مناقشة قرار السلطة الفلسطينية بإغلاقها؟
من المفترض أن يتضمن القرار نفسه إجابة واضحة لا لبس فيها، بعيدة عن العبارات المبهمة التي تحتمل تفسيرات متعددة، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بمؤسسة إعلامية تنشر عبر شاشتها ومنصاتها الرقمية طيفًا واسعًا من الأخبار، الصور، التحقيقات، والتحليلات المعمقة. هذا التدفق الغزير يصعب على المراقب العادي استخلاص المعاني الدقيقة وراء قرار إغلاق قناة الجزيرة في رام الله.
نص القرار
وفقًا لما أوردته وكالة الأنباء الفلسطينية الرسمية "وفا"، فإن القرار يقضي بوقف البث وتجميد جميع أنشطة قناة الجزيرة والعاملين معها ومكاتبها في فلسطين. وقد استند هذا القرار إلى توصية من اللجنة الوزارية المختصة، المؤلفة من وزارات الثقافة والداخلية والاتصالات. ويشمل التجميد المؤقت لعمل جميع الصحفيين والعاملين مع القناة والقنوات التابعة لها، ريثما يتم تصويب وضعها القانوني، وذلك بسبب ما وصفته الوكالة بمخالفة قناة الجزيرة للقوانين والأنظمة السارية في فلسطين.
وأوضحت "وفا" أن هذا الإجراء جاء نتيجة "إصرار الجزيرة على بث مواد تحريضية، وتقارير تنطوي على تضليل وإثارة للفتنة، وعبث وتدخل في الشؤون الداخلية الفلسطينية".
ضبابية مقصودة
بغض النظر عن الجوانب القانونية ومدى صحة الادعاء بمخالفة الجزيرة للقوانين والأنظمة المتبعة، فإن اتهامها ببث "مواد تحريضية" دون تحديد طبيعة هذه المواد، وتقديم "تقارير تتسم بالتضليل وإثارة الفتنة والعبث" دون تفصيل المحتوى، بالإضافة إلى "التدخل في الشؤون الداخلية الفلسطينية" دون توضيح أشكال وأنواع هذا التدخل، يمنح القرار طابعًا يتجاوز البعد القانوني.
فالتهمة القانونية عادةً ما ترتبط بانتهاك أو مخالفات محددة بوضوح، مع ذكر تفاصيلها، والشخص أو الأشخاص المتورطين، والمكان والزمان. أما هذه النصوص، فتضفي بُعدًا سياسيًا على القرار، وتعكس تقييمًا أو حكمًا شاملًا ومتسرعًا، وغير مدعوم بأدلة قاطعة حول طبيعة التغطية الإعلامية التي تقدمها الجزيرة للشأن الفلسطيني.
فالمحتوى الذي تقدمه القناة غزير ومتنوع، يشمل الأخبار العاجلة، التحليلات المعمقة، الأفلام الوثائقية، والبرامج الحوارية. بعض هذا المحتوى يعبر عن وجهة نظر صحفيي الجزيرة، بينما يعكس البعض الآخر آراء الضيوف والمشاركين في برامج القناة.
وكان من الأفضل أن تحدد السلطة مكامن الخلل المزعوم، حتى يتم تداركها واستئناف العمل الذي يواجه صعوبات جمة منذ أشهر، بعد قرار مماثل من القائد العسكري الإسرائيلي لمنطقة الضفة المحتلة. وقام جنود الاحتلال المدججون بالسلاح باقتحام مقر القناة في رام الله وتسليم نسخة من القرار لمدير المكتب، وليد العمري.
ومن اللافت أن السلطة لم تتخذ أي إجراء رادع ضد اقتحام جيش الاحتلال لرام الله في ذلك الوقت، ولم تبد أي اعتراض على القرار الإسرائيلي الذي بدا، في شكله ومضمونه، إنكارًا لوجودها وتجاهلًا لسيادتها وسلطتها، وتجاهلًا لقرار وزاراتها الثلاث بمنح الجزيرة ترخيصًا للعمل في مناطق سيطرة السلطة الفلسطينية.
توقيت خاطئ
يأتي قرار السلطة بوقف قناة الجزيرة في توقيت بالغ الحساسية، حيث تشهد الضفة الغربية انتهاكات مستمرة من قبل الاحتلال وقواته، وكذلك من قبل المستوطنين اليهود المتطرفين، الذين يحظون بدعم من وزراء في الحكومة الإسرائيلية، مما يشجعهم على الاعتداء على المواطنين الفلسطينيين، خاصة في القرى المتاخمة للمستوطنات أو الطرق الالتفافية، بهدف ترويعهم وتهجيرهم والاستيلاء على أراضيهم وضمها إلى المستوطنات.
أما عمليات جيش الاحتلال، فلا تتوقف على المدن والمخيمات الفلسطينية، بذريعة ملاحقة "المقاومين المسلحين". وقد اغتال الجيش المئات من الفلسطينيين خلال الأشهر الأخيرة، واعتقل الآلاف في محاولة يائسة للقضاء على فصائل المقاومة.
كل هذا يتزامن مع تصريحات متكررة من مسؤولين إسرائيليين رفيعي المستوى ضد السلطة الفلسطينية، ومعاهدات السلام الموقعة معها، ورغبتهم في التخلص منها وضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية المحتلة.
وفي الوقت نفسه، تستمر حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة للشهر الخامس عشر على التوالي، وتتوالى المجازر وعمليات التدمير الممنهج والتطهير العرقي لشمال القطاع، ومحاصرة وتدمير المستشفيات، وآخرها مستشفى كمال عدوان، واعتقال الأطباء وعلى رأسهم مدير المستشفى الدكتور حسام أبو صفية، كما يستمر القصف العشوائي للخيام وأماكن النزوح والمنازل المدمرة. كل ذلك يجري في ظل تفاقم المعاناة الإنسانية للمواطنين الفلسطينيين الذين يعانون الحصار الخانق، ونقص الغذاء والدواء والمياه النظيفة والمأوى الآمن.
في ظل هذه الظروف العصيبة، يصبح وجود وسائل إعلام قوية وصحفيين مهنيين حاجة ملحة لا تحتمل التأخير. وفي ظل الغياب شبه التام لوسائل الإعلام الدولية والصحفيين الأجانب عن قطاع غزة المحاصر، كان لقناة الجزيرة وصحفييها دور محوري في نقل الحقيقة وفضح جرائم الحرب. وقد ارتقى منهم شهداء وجرحى، وتعرضوا للتهديدات واستهداف منازلهم وعائلاتهم. ولا يزال مصور الجزيرة المصاب، فادي الوحيدي، ممنوعًا من السفر لتلقي العلاج الضروري في الخارج.
الجزيرة صديق للحقيقة
لقد جسدت شاشة الجزيرة ومنصاتها المختلفة معاناة الشعب الفلسطيني، وكانت الصوت الأقرب إلى معاناتهم اليومية جراء الاعتداءات والانتهاكات الإسرائيلية. وقد نقلت القناة هذه الحقائق إلى العالم، واستندت إليها العديد من المنظمات الدولية المدافعة عن حقوق الإنسان. كما شكلت تغطية الجزيرة جزءًا أساسيًا من الوثائق التي قدمت إلى المحاكم الدولية التي تنظر في جرائم الحرب التي ارتكبها قادة الاحتلال الإسرائيلي، وتضمنت أدلة دامغة تدينهم بناءً على ما وثقته ونقلته الجزيرة وصحفيوها ومصوروها.
وبشكل عام، يمكن القول إن تغطية الجزيرة للشأن الفلسطيني عادلة ومنصفة، بل وربما تميل إلى الوقوف بجانب الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، وفضح الجرائم التي يرتكبها الاحتلال. وهذا ما دفع الاحتلال إلى إغلاق القناة ومنعها من العمل في الأراضي المحتلة مرارًا وتكرارًا منذ بداية معركة "طوفان الأقصى"، وصولًا إلى قرار إغلاق مكتبها في رام الله، وهي خطوة استفزازية تحمل دلالات واضحة حول نظرة الاحتلال إلى السلطة الفلسطينية، واعتبار المناطق الخاضعة لسيطرتها مناطق منزوعة السيادة أو حتى مستباحة بالكامل.
لا عقاب بدون جريمة
كان بالإمكان تفهم موقف السلطة الفلسطينية، على الرغم من كل ما سبق، لو كانت قناة الجزيرة قد ارتكبت خطأ أو مخالفة محددة، سواء كانت مهنية أو تحريرية أو غير ذلك. لكن المبررات التي ساقتها السلطة لا تقدم أي دليل قاطع على وجود مثل هذا الخطأ أو الجرم الذي يستدعي تجميد عمل صحفيي الجزيرة ومنعها من البث، في محاولة لإسكات صوتها وتكميم أفواه صحفييها، وتعطيل تغطيتها المتميزة التي يعتبرها الاحتلال عبئًا ثقيلًا عليه، ولا يتوانى عن انتقادها وتهديدها بسببها.
إن الواجب الوطني الفلسطيني يقتضي منح قناة الجزيرة وصحفييها كل أشكال المساندة والدعم، وتسهيل عملهم لتقديم أفضل تغطية ممكنة لما يجري في جميع الأراضي الفلسطينية، بما في ذلك الأحداث الدامية التي شهدها مخيم جنين من اشتباكات مسلحة بين الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية ومجموعات من المقاومين الفلسطينيين.
فلا يمكن تجاهل هذه الأحداث أو فصلها عن السياق العام لما يجري في فلسطين والمنطقة. ولا يمكن أيضًا تجاهل معاناة الشعب الفلسطيني جراء هذه الاشتباكات، وتداعياتها الخطيرة على حياتهم، بما في ذلك الضحايا من القتلى والجرحى.
إن الواجب المهني يفرض على قناة الجزيرة تغطية هذه الأحداث بموضوعية وتوازن، ومنح جميع الأطراف المعنية والمسؤولة الفرصة لتوضيح مواقفها والإدلاء بشهاداتها، وعدم الانحياز إلى أي طرف على حساب الآخر، وتقديم تغطية مسؤولة لا تساهم في تأجيج الصراعات وتكريس الانقسام. والجزيرة تمتلك الخبرة المهنية اللازمة لتقديم تغطية مميزة من هذا النوع.
أما مسؤولية السلطة الفلسطينية، فهي العمل الجاد على معالجة الأسباب الجذرية لهذا الاقتتال الداخلي، وتوحيد الصف الفلسطيني لمواجهة المخاطر المحدقة والمخططات الخبيثة التي تستهدف وجودهم السياسي والفعلي وضم الضفة الغربية والقدس إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي.
إن تغييب قناة الجزيرة وصحفييها ومنعهم من العمل بحرية في أي مكان دون مبرر قانوني أو مهني مقنع، يفتح الباب واسعًا أمام العديد من التساؤلات، وعلى رأسها السؤال الأهم: أين أخطأت قناة الجزيرة؟